بدا ياسر عرفات منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في مطلع 1965 شخصا غامضا، مجهول الهوية، يمسك زمام الأمور بين يديه بإحكام ، ولفترة ليست ببعيدة فإن كثيرا من الفلسطينيين لم يكونوا يعرفون اسمه الحقيقي أو حتى مكان مولده ، اشتهر محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني بياسر عرفات منذ فجر الثورة وحتى اليوم .
وعلى الرغم من العمل الطويل للثورة الفلسطينية فإن فك رموز ياسر عرفات الشخصية، ليست بالأمر الهين، فمن يعرفه جيدا قد لا يستطيع البوح بأسراره. سعت "العربية نت" لفك الرموز المحيطة بعرفات، واستنطاق ملامحه الشخصية وتجاربه الذاتية في اطاره كإنسان... وسياسي...وزعيم...وفلسطيني.
والتقت "العربية.نت" يحي رباح، سفير فلسطين في اليمن سابقا، وأحد المقربين من عرفات، الذي رافقه في رحلة النضال منذ فجر الثورة حتى اليو. يقول رباح إن حظه لم يكن عابسا، إذ تعرف على الرئيس عرفات في 1968 في مقر إذاعة صوت العاصفة الناطقة باسم حركة فتح في ذلك الوقت، والتي كان مقرها (4 شارع الشريفين، في مدينة القاهرة) وقد كان هذا المقر أصلا لأول إذاعة مصرية. ويضيف "منذ ذلك الوقت انجذبت إلى هذه الشخصية، وكلما كنت اقترب منه أكثر، كنت اكتشف قوة إضافية وصفة هائلة في هذه الشخصية".
فيما بعد انتقلت إلى العمل في ساحات أخرى –يقول رباح- في الأردن والجزائر وسوريا ولبنان، ثم للعمل في القوات العسكرية للثورة الفلسطينية في العرقوب في جنوب لبنان وشمال سوريا، وخلال عملي في القوات العسكرية ازدادت معرفتي بالرئيس عرفات وازداد التصاقي به، وبعد ذلك عدت مرة أخرى إلى الإعلام وعملت مديرا عاما للإذاعات الفلسطينية، ثم سفيرا لفلسطين في الجمهورية اليمنية.
محاولات الاغتيال
تعرض عرفات طوال مسيرته النضالية إلى العديد من محاولات الاغتيال بلغت أكثر من 13 محاولة اثنتان منها بالسم .ويقول رباح : "ما اعرفه أكثر من 30 محاولة اغتيال.
وفي احد المرات القي القبض على مدير مكتبه اسمه أبو السعيد الذي أخفى السم في جيبه 6 شهور، وكان مطلوب منه أن يضعه في طعام عرفات، وكان هو الرجل الأقرب الذي يشرف على تفاصيل حياته، وكان الموساد الإسرائيلي قد استطاع تجنيده، وان يكلفه بالاغتيال، وقد كانوا يدبرون طرقا للالتقاء بأبي السعيد في الخارج، ومن ثم يأخذونه داخل إسرائيل لتدريبه على المهام التي يقوم بها، وبقي الجاسوس الخطير في صراع بينه وبين نفسه لمدة 6 شهور إلى أن انكشف أمر صلاته بالمخابرات اللبنانية، وكانت إسرائيل تأمر جواسيسها دائما بان يتغطوا بالعمل مع جهاز مخابرات عربي لأنهم يعرفون أننا حينما نلقي القبض على جاسوس عربي، فان ذلك يثير حساسية معنا تدفع بعدم إعدامه، ولكن اتضح فيما بعد انه له أيضا علاقة بالمخابرات الإسرائيلية وكان مكلفا باغتيال عرفات بالسم، وتم إعدامه في مقر قيادة ثكنة الـ17 في بيروت.
ولكن هناك عشرات محاولات الاغتيال للرئيس عرفات بالسم أو بالقصف، وأصبح عرفات في حصار بيروت لا يستطيع التحرك في الأيام الأخيرة، فما أن يخرج من بناية حتى تكون قد جاءت الإخباريات وتقصف تلك البنايات التي كان يقضي فيها يوما أو بعض يوم، وكانوا يبحثون عنه بالطائرات لكي يغتالوه، أيضا عاش عرفات فترات صعبة في حياته نتيجة المعلومات التي كانت تؤكد له انه ملاحق بالاغتيال.
ففي سنة من السنوات قضى بضعة شهور يأخذ طعامه وماءه معه عندما يسافر إلى دول بعينها، مدعيا انه يمر بحالة صحية معينة وان الأطباء وصفوا له هذا الطعام وهذا الشراب، حتى لا يضطر أن يأكل من طعام تلك الدول التي يزورها لأنه كان لديه معلومات انه مدرج على قائمة الاغتيال، وكان عندما يأوي إلى النوم بعد أكثر من 20 ساعة من العمل يعلم أن رأسه موضوع على مخدة من المتفجرات، لا يعرف إذا كانت ستنفجر الآن أم لا، وعاش كل حياته على جناح وتوقعات الخطر".
ذاكرة حديدية
ويرصد رباح مزايا عرفات التي يصفها بالخارقة إذ عرف عنه القدرة الفائقة على العمل والحركة المستمرة بحيث انه كان دائما يعمل أكثر من 20 ساعة في اليوم الواحد، وتمتعه بذاكرة خرافية تحفظ ملايين من التفاصيل وأسماء الناس، وكان لا ينسى وجها رآه على الإطلاق.
ويشير رباح إلى جوانب أخرى في شخصية عرفات تتمثل بطاقة الإيمان والشجاعة الهائلة التي يمتلكها، يستذكر رباح عن الفترة التي كان يعمل خلالها في قواته العسكرية في جنوب لبنان مفوضا سياسيا للقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية في جنوب لبنان "كان الرئيس عرفات يأتي لزيارتنا بشكل مفاجئ أثناء المعارك بيننا وبين القوات الإسرائيلية في بعض المناطق، وكنا نرجوه حرصا على سلامته أن لا يصل إلى الخطوط الأولى ومواقع الاشتباك، ونقول له أننا سنضعك في الصورة وعلى تفاصيل العمليات، لكنه كان يرفض ذلك رفضا شديدا، ويذهب إلى موقع كل معركة والى كل مكان تدور فيه الاشتباكات بنفسه".
ويستذكر رباح كذلك المعارك التي كانت تدور في النبطية عام 1979 أن موكب عرفات وصل عن طريق الزهراني النبطية، بينما كان في انتظاره الحاج إسماعيل جبر على الطريق، وكان الحاج إسماعيل في ذلك الوقت قائدا للقوات المشتركة في جنوب لبنان، وقلنا له إن قصف الطائرات الإسرائيلية والمدفعية الإسرائيلية على موقعنا كثيف جدا، نرجوك أن لا تذهب إلى النبطية، لكنه أصر، وعدنا نحن معه مرة أخرى إلى موقع المعركة، وفي ذلك اليوم أصيب بشظايا صغيرة في وجهه ويديه نتيجة القصف، ولأن الإسرائيليين تمكنوا من مراقبة موكبه وهو يتقدم باتجاه الموقع ، اضطررنا تحت كثافة القصف أن نوجه موكبه في اتجاه ، وأخذناه نحن في سياراتنا باتجاه .
ويستذكر رباح أيضا أن عرفات خلال عملية ما تسمى عملية الليطاني عام 78 -الاجتياح الإسرائيلي المحدود لمناطق من جنوب لبنان - كان يصل إلى أقصى خطوط الاشتباك، "وفي احدى المرات رأينا الأخ أبو جهاد والأخ أبو الوليد يحاولان معه مغادرة النقطة التي يقف فيها لأنه كان عرضة لأكثر درجات الخطر، حيث كان يقف على جسر القاسمية على مداخل مدينة صور الذي يعتبر آخر نقطة للاقتراب من القوات الإسرائيلية، وبصعوبة بالغة تدخلنا برجائنا الشديد إلى أن تمكن من مغادرة هذا المكان بعد أن وعدناه أن نقوم بتنفيذ كافة التعليمات التي أصدرها إلينا".
كان عرفات دائما وفقا لرباح يجسد القول التاريخي لكل زعيم كبير (اتبعوني) ولا يقول اذهبوا وإنما يقول اتبعوني أنا ذاهب أمامكم، وفعلا كان من خلال زيارته لأشد المواقع خطورة يعطي مثلا ونموذجا لآلاف من المقاتلين الذين جاؤوا طوعا وتركوا قراهم وبلادهم وإعمالهم وجامعاتهم، وكانوا دائما بحاجة إلى زعيم يعطيهم هذا الإلهام وهذه القوة المعنوية".
فراسة نادرة
وإلى جانب حرص عرفات على تقدم مواقع القتال ومتابعة مجريات المعارك من داخل الميدان، فقد تمتع بحدس قوي وفراسة نادرة. وكما يقول رباح فإن عرفات يملك هذا الحدس الشديد سواء الأمني أو الحدث، ويستذكر رباح انه قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 "زارنا عرفات في الجنوب، وذهبنا معه إلى صور، حيث أصر على الالتقاء مع عدد كبير جدا من الكوادر من الذين هم على رأس قواتهم وكتائبهم، وأصر على أن يتصور معنا جميعا صورا جماعية وفردية قائلا: لا احد يعرف إذا كان أصحاب هذه الصور سيلتقون ثانية أم لا".
ويتابع رباح "العجيب انه بعد قرابة 3 شهور وقع الاجتياح الإسرائيلي الكبير للبنان، وحصار بيروت واجتياحها، واستشهد عشرات من الذين كانوا في تلك الصور معه الرئيس، وتفرقت بهم السبل وكانت نبوءاته صادقة ودقيقة جدا"
كانت لعرفات قراءة واسعة ودقيقة جدا للأوضاع السياسية وكثيرا ما كان يحدثنا –يواصل رباح- في جلساته معنا ما الذي سيجري من أحداث، وكنا نحن نستغرب، ولكن التجارب أثبتت على الدوام صدق تقديراته نتيجة الذكاء الشديد ، والقدرة على المتابعة التفصيلية لانغماسه الكلي في عمله.
في سفوح جبل الشيخ
كان عرفات يؤمن أن الاتصال المباشر هو أفضل الطرق لتوصيل الرسالة واستقراء الأوضاع وكما يقول رباح فإن عرفات يكاد يكون المبتدع الأول والاهم لنظرية الاتصال المباشر؛ لانه كان يعرف أن مشكلة الشعب الفلسطيني وعقدته الرئيسة هي في الشتات الواسع على مدار الكون، وكان عبر نظرية الاتصال المباشر يسعى دائما لان يكون على صلة مع هذا الشتات ، وكان حين يذهب إلى بنغلادش أو الهند أو دول أمريكا اللاتينية يحرص على أن يرى الفلسطينيين هناك حتى لو كانوا على أصابع اليد الواحدة ، حتى أنه كان يصر على أن يذهب إلى المواقع التي يصعب الوصول إليها.
فكان على سبيل المثال كلما أتى لزيارتنا في جنوب لبنان في قاطع النبطية يصر على أن يذهب إلى قلعة الشقيف، وكان يصعد على قمة القلعة التي يصعد إليها الشباب بالكاد، لكي يسلم على المقاتلين الموجودون في مواقعهم وخنادقهم، وكانت أيضا لدينا مواقع صعبة جدا بالغة الصعوبة في السفوح الغربية لجبل الشيخ، في رويسات العلم وغيرها، وكان يصر على أن يصل إلى أولئك المقاتلين الموجودين في المواقع، حتى في فصل الشتاء حين كانت الثلوج متراكمة.
"وكان أيضا على صلة شديدة بالآلاف من هؤلاء المقاتلين الذين يعملون تحت قيادته، كان يتابع صحتهم وأخبار عائلاتهم، ويسال عن أولادهم إذا كانوا يعانون من بعض المشاكل المرضية أو غير ذلك".
شديد الاعتزاز بشعبه
كان لدى الرئيس عرفات كما يصفه رباح اعتداد وثقة كبيرة جدا بالشعب الفلسطيني والانسان الفلسطيني، ويفتخر دائما حين يقارن أعداد الحاصلين من الفلسطينيين على شهادات عليا بمن حصلوا عليها في إسرائيل أو دول أخرى، ويشعرنا بالتفوق، وكان عندما يجد أديبا فلسطينيا له كتاب شهير أو ديوان شهير يأخذ نسخا منه ويوزعه على الآخرين في زياراته لهم حتى لو كانوا رؤساء أو ملوكا أو أمراء، ويسعد لان يقدم لهم كتاب الشاعر الفلاني أو رواية هذا الأديب الفلاني، وكان اعتزازه بكل إبداع فلسطيني وكل نبوغ فلسطيني لا حدود له، ويفخر دائما بأن يأخذ بعض هؤلاء النابغين الفلسطينيين معه في طائرته لكي يقدمهم إلى شخصيات أخرى في العالم.
تقشف ممزوج برقة في الطباع